إن المؤمن بربه يرضى بالقضاء والقدر، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، ويعلم أن في الابتلاء والامتحان خيرا كثيرا وأجرا كبيرا، وأن المصائب والنكبات يخفف الله بها من الخطايا، فيستحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أصاب العبد المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه" متفق عليه logo إن أهمية الوقت معلومة عند كل عاقل؛ ذلك أن وقت الإنسان هو رأسماله، وهو عمره أيامه ولياليه، فإذا ما ضاع رأس المال، ضاعت الأرباح، وإذا عرف الإنسان ذلك، حرص على أن يستغلها ويستفيد منها وألا يضيعها، ليكون بذلك رابحا إذا ضعفت العقيدة في القلوب ضعف العمل، فإذا رأيت الذي يكون ضعيفا في عباداته، في صلواته وزكواته وما إلى ذلك، فاعلم أن ذلك لضعف في عقيدته بالأساس.فالعقيدة حقيقة إذا امتلأ بها القلب ظهرت آثارها على الجواربالوقوف قائما أو عدم الاستظلال أو بترك الكلام فهذا ليس فيه طاعة اختار بعض العلماء أن وقت الختان في يوم الولادة، وقيل في اليوم السابع، فإن أخر ففي الأربعين يوما، فإن أخر فإلى سبع سنين وهو السن الذي يؤمر فيه بالصلاة، فإن من شروط الصلاة الطهارة ولا تتم إلا بالختان، فيستحب أن لا يؤخر عن وقت الاستحباب.أما وقت الوجوب فهو البلوغ والتكليف، فيجب على من لم يختتن أن يبادر إليه عند البلوغ ما لم يخف على نفسه من كان مسافرا ولم يصل المغرب والعشاء فأدرك العشاء خلف إمام مقيم فالمختار أنه يصلي المغرب وحده، فإذا صلاها دخل معه في بقية العشاء، وذلك لاختلاف النية؛ فإن المغرب والعشاء متفاوتان بينهما فرق في عدد الركعات. هذا الذي نختاره. وأجاز بعض المشائخ أنه يدخل معهم بنية المغرب، فإذا صلوا ثلاثا فارقهم وتشهد لنفسه وسلم، ثم صلى العشاء، ولكل اجتهاده
shape
محاضرة بعنوان شر غائب ينتظر
3502 مشاهدة print word pdf
line-top
من فتن آخر الزمان

كذلك فتنة المسيح الدجال وهو شر غائب ينتظر. وهكذا الساعة؛ فإن الساعة آتية لا ريب فيها ، وهي ذكر الله أن أنها أدهى وأمر في قوله تعالى: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا وإذا عرف أن هذه كلها من الفتن؛ فإن الإنسان عليه أن يبتعد عن أسباب الفتن، وأن يستعيذ بالله عز وجل من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
أما الموضوع الذي في هذه الليلة فالتحذير من فتنة المسيح الدجال. معلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه لا بد أن يخرج في هذه الأمة، فإذا كان لا بد أنه خارج في هذه الأمة؛ فإن علينا أن نعرف أوصافه؛ حتى نحذر منه، فإن قرب أشراط الساعة وما حصل فيها مما يفيد أنه قد قرب زمان خروجه.
فنذكر من الأحاديث بعض ما ورد فيها شيء من صفاته، وبيان ما يحصل في زمانه، وعلى يديه من الفتن ومن الامتحان؛ حتى يكون المؤمن على يقين من هذه الفتنة ويبتعد عنها ويحذرها إذا قدر أنه يدركها.
فنقول: لقد كثر ذكره في الأحاديث وأفرد بمؤلفات، وذكره العلماء في مؤلفاتهم؛ نظرا إلى أنه ورد في هذه الأحاديث كثرة ذكره وكثرة أوصافه التي يتميز بها.
ولا شك أنها أخبار صحيحة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى. وقد وصفه بصفات ثابتة أيضا في أحاديث الصحيحين، أو في أحاديث على شرط الصحيحين، أو في أحدهما، وهذا مما يسبب أننا نصدق بها؛ لأن الصحيحين قد تلقتهما الأمة بالقبول، ولم يرد أهل السنة منهما شيئا؛ إلا ما قل مما ورد في ثبوته خلاف وتجاهل ولا يقال: لماذا لم يرد ذكره في القرآن؟ الجواب: أنه ورد ذكر الأشراط مطلقة في قول الله تعالى: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا ولا شك أن أشراطها هي العلامات، ومن علامتها وعلامات قربها بعثة النبي صلى الله عليه وسلم.
وكذلك أيضا قد أخبر الله تعالى بقرب الساعة في قوله تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ اقترب؛ يعني قيامها، وكذلك قوله تعالى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ اقْتَرَبَ ؛ يعني قرب حسابهم؛ وذلك دليل على قرب الساعة. وكذلك قال الله تعالى: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ وأمر الله يدخل فيه الأمر بقيام الساعة. فقيام الساعة قبله أمارات وضحها النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله جبريل عن الساعة قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل. ثم قال: أخبرني عن علاماتها؟ قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان .
فجعل هذه من علاماتها، ولا شك أن هذه قد ظهرت، وقد قرب ظهور أكثر علامات وأشراط الساعة التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر كثير منها في القرآن مثل قول الله تعالى: وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ ؛ أي متى وقع القول عليهم وقرب وقت ذلك أخرج الله لهم دابة من الأرض. فخروج الدابة من الآيات التي ينتظرها الناس. وكذلك خروج الدخان المذكور في قول الله تعالى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ورد أن هذا الدخان يأتي قبل قيام الساعة؛ بحيث إنه يأخذ الناس من أنوفهم، وأنه يطول أو تطول مدته، ويغشى كثيرا من الناس.
وكذلك خروج يأجوج ومأجوج ذكر في القرآن في قوله تعالى: حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ ؛ أي يخرجون. قالت طائفة من الناس: الله أعلم بمكانهم وبهيئتهم، يخرجون في آخر الدنيا، ثم إذا خرجوا مشوا في الأرض كما في هذه الآية وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ قال بعد ذلك: وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ ؛ أي قرب وعد الله تعالى بقيام الساعة الْوَعْدُ الْحَقُّ الوعد الصحيح. وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ .
فنعرف بذلك أن هناك أمارات للساعة قد ورد ذكرها صريحا في القرآن. وكذلك أيضا ورد ذكر بعضها بالإشارة مثل قول الله تعالى: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا وهذه الآية التي ذكرت فسرت بأنها طلوع الشمس من مغربها، وأن الناس إذا رأوها آمنوا كلهم؛ وحينئذ لا ينفع نفسا إيمانها، بل قد ختم على الأعمال، فلا أحد يقدر على التوبة ولا على الزيادة في الأعمال، ويكون ذلك علامة على قرب قيام الساعة.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يكون قرب قيام الساعة ريح طيبة تقبض أرواح كل مؤمن-تقبض أرواح المؤمنين- ويبقى شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع يتهارجون كما تتهارج الحمر فعليهم تقوم الساعة وأخبر أيضا صلى الله عليه وسلم بأن قرب قيام الساعة لا يبقى أحد على الإيمان، فقال صلى الله عليه وسلم: لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله الله ؛ أي ينقرض من يعرف الله، ولا يبقى إلا من لا خير فيهم.وكذلك قال صلى الله عليه وسلم: إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد ؛ أي أنهم من شرار الناس. الذين تدركهم الساعة أحياء هم شرار الناس، أو لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس.
فإذا كثر الشر فإن ذلك من أمارات قرب الساعة، ثبت أنه صلى الله عليه وسلم دخل مرة على إحدى زوجاته وهو يقول: ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق بإصبعيه؛ أي: السبابة والإبهام فقالت: زينب يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث ؛ أي إذا كثر الكفر وكثر الفسوق أذن الله تعالى بهلاك من على وجه الأرض والقضاء على هذه الدنيا وعلى أهلها؛ فيكون ذلك علامة على قرب قيام الساعة؛ إذا كثر الخبث وكثر الشر.
ولا شك أن الفتن التي يفتتن الناس بها في دينهم عامة لفتن الشبهات، وفتن الشهوات، وفتن الابتلاء والامتحان. ففتن الشبهات ما يروجها أعداء الله تعالى من اليهود والنصارى والشيوعيين والبوذيين والوثنيين والقبوريين والمنافقين والملحدين ونحوهم مما يشككون به في دين الله؛ بحيث إنهم يمدحون أديانهم الباطلة، ويذكرون أسبابا تبرر بقاءهم على هذه الأديان الباطلة، ويمدحون ما هم عليه، ويوردون ما يشككون به المسلمين في عقيدتهم وفي أديانهم وفي عباداتهم، وما يقدحون به في دين الإسلام.
فالذي يكون غِرا جاهلا ينخدع بشبهاتهم، ويفتتن بترهاتهم، ويخيل إليه أنهم صادقون، ويعتقد اعتقادا خاطئا أن دين الإسلام دين متهافت، وأن أديانهم أديان صحيحة، ولا يكون معه من الإيمان ولا من العلم الصحيح ما يرد به على أولئك المشبهين، على أولئك المموهين الذين يظهرون الحق في صورة الباطل والباطل في صورة الحق. فنقول: على المؤمن أن يتعلم أمور دينه، وأن يتعلم الأمارات والعلامات التي تثبت الإيمان في قلبه، وترسخ العقيدة الصافية الصحيحة التي ترك النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين عليها، وقال: تركتم على مثل البيضاء ليلها كنهارها فذلك بلا شك مما يجب على المسلم؛ حتى لا يفتتن بهذه الشبهات.
كذلك أيضا فتنة الشهوات وما أكثرها التي افتتن بها كثير؛ حيث انخدعوا وساروا وراء تلك الشهوات وتلك الملذات، وقدموا ملذاتهم على طاعة ربهم وعلى عبادته؛ فأصبحوا بذلك منحرفين، مقدمين لسخط الله تعالى على رضاه. لا شك أن هذه أيضا من الفتن التي يسلطها الله على من يشاء، ولا يسلم منها إلا من سلم الله، قال الله تعالى: إنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ فجعل هذه من الفتن، وأخبر بأن الدنيا وما عليها من الفتن.
وكذلك الكفر والشرك من الفتن في قوله: ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وفي قوله تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً فالفتنة تفسر بأنها الشرك في قول الله تعالى: أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ هذه الفتن فتن الشهوات هي المتمكنة الآن، فمنها زينة الدنيا وزخرفها، فما أعظمها من فتنة. الكثير من الناس انخدعوا بأهل الدنيا وبما هم عليه، فإذا رأوا من بسطت عليه الدنيا، ومتع بشهواتها وزينتها، ومن متع بزخرفها -انخدعوا بذلك، واعتقدوا أن هذا دليل على شرفه؛ ففضلوا ما كان عليه على حالة أولياء الله وأتقيائه، وهذا من الفتن فتنة الدنيا وزينتها.
نقول: عليك ألا تنظر إليهم نظر إعجاب، اقرأ قول الله تعالى: وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ؛ أي لا تنظر إليهم نظر إعجاب ولا نظر إكبار، ولا تنظر إليهم تغبطهم بما هم فيه من زهرة الدنيا وزينتها فإنه:
متاع غـرور لا يـدوم سـرورها
وأضغـاث حلم خـادع بهـدائـه

إيــاك والدنـيا الدنــية إنهـا
شـرك الـردى وجلائـل الأخطار
دار متى مـا أضحكـت في يومها
أبكـت غـدا بعدا لهـا مـن دار
آفاتهـا لا تنقضــي وأسيرهـا
لا يفتــدي بجـلائـل الأخـطار
قلبت لـه ظهـر المجن وأولغـت
فيـه المـدى ونزت لأخـذ الثـار
فلا ينبغي أن نغبط أهل الدنيا؛ سيما إذا كانوا من المنحرفين أو كانوا من المترفين الذين أترفوا في حياتهم، فالدنيا زخرفها وزينتها. لا شك أنها أكبر الفتن التي افتتن بها الكثير من الناس. كذلك أيضا نقول: إن من الفتن فتن الشهوات. الشهوات هي التي تجلب من نظر إليها إلى الانخداع بها؛ فشهوة الزنا من الفتن، وشهوة المسكرات من الفتن، وشهوة النساء والنظر إلي زينتهن وما هن عليه من الفتن أيضا، وقد وقع فيها الكثير من الناس؛ لذلك نقول: احذروا من الانخداع بهذه الفتن، وتوقوا الوقوع فيها، وابتعدوا عن أسباب الوقوع فيما يفتنكم عن دينكم؛ حتى تحصنوا إسلامكم وتتمسكوا بدينكم وتتمسكوا بعقيدتكم.
كذلك أيضا فتنة الدعاة إلى هذه الشهوات والمحرمات ونحوها. لا شك أن هناك دعايات إلى هذه الشهوات، وهناك دعايات إلى اختلاط النساء بالرجال، وهناك دعاية للنساء إلى أن يخرجن متبرجات ومتكشفات، وأن يخلعن جلباب الحياء؛ حتى يتمكن أهل الأهواء المغرضة من نيل شهواتهم، ومن نيل ما تتمناه نفوسهم من غير نظر لعواقب الأمور. وهناك دعاة إلى إباحة المحرمات؛ إباحة الخمور والمسكرات التي يدعون أنها من الملذات وما عرفوا عاقبتها. وكذلك أيضا دعايات كثيرة إلى إباحة المهرجانات المختلطة والأغاني الفاتنة والصور الخليعة والأفلام الهابطة، وما أشبه ذلك.
هذه كلها من الفتن التي تمكنت في هذه الأزمنة، وقضت على كثير من أهل العقائد السليمة، وركن إليها كثير فتركوا العبادات، واتبعوا ما تهواه أنفسهم، وصدق عليهم قول الله تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ؛ فالشهوات التي اتبعوها شهوات بطونهم وشهوات فروجهم، وشهوات أسماعهم، وشهوات أبصارهم. ما تهواه نفسه يميل إليه، يحب أن يسرح بصره ونظره في تلك الصور الخليعة، يحب أن ينعم أذنه في سماع تلك الأغاني الماجنة التي توقعه في الشرور وتدفعه إليها. فهذه كلها من الفتن التي تدخل في قوله صلى الله عليه وسلم: وفتنة المحيا والممات .
وكذلك أيضا من فتنة المحيا والممات، فتنة المحيا أيضا العقوبات التي يعاقب الله بها بعض عباده، ويسلط عليهم أنواعا من البلاء؛ فإنها من الفتن، إما من الله مباشرة، وإما بواسطة بعض الأذى من الناس. فما يحصل للإنسان من الأمراض فتنة؛ ليظهر هل يصبر أم يجزع؟ وما يحصل على الإنسان من المصائب من فقد مال أو فقد ولد أو موت قريب أو نحو ذلك -هو أيضا من الافتتان، يفتتن الله تعالى ويمتحن بعض عباده بمرض، هل يصبر أم لا يصبر؟ وهو معنى قوله في هذا الحديث: أو مرضا مفسدا ؛ يعني مفسدا عليه مزاجه، ومفسدا عليه لذته؛ فإنه إذا أصيب بهذه الأمراض المتواصلة قد يفتتن، ويظن أن هذا من سوء حظه وسوء عاقبته، ويظن أن الله تعالى خصه بهذا؛ لأنه شقي؛ فيتمادى في شقائه، أو يترك الخير ويفعل الشر.
في ظنه أن الخير وأن العبادات وأن الطاعات سبب لهذا الابتلاء، وما علموا الذين يبتلون بهذه المصائب وهذه الأمور أنها اختبار من الله تعالى لهم؛ هل يصبرون على هذه البلوى أم لا يصبرون؟ ولقد أخبرنا الله تعالى بما حصل على الأنبياء من قبلنا قي قوله تعالى: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِين إلى قوله: وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ ؛ أي يختبرهم بهذا الابتلاء الذي هو تسليط الأعداء عليهم؛ فإذا كان إيمانهم صادقا لم يزدهم هذا الابتلاء إلا تمسكا بدينهم وتصلبا عليه.
كذلك قال الله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ؛ أي هل تحسبون أنكم تتركون على حالة الرخاء، لا بد أن الله تعالى يبتليكم؛ حتى يظهر من يكون صابرا ومن يكون جازعا. وكذلك قال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ فأخبر بأن الذين قبلنا مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا وأوذوا وأخرجوا من ديارهم، وقتل أبناؤهم وهم ينظرون، وعذبوا.
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بشيء مما أصابهم من جنس هذا العذاب، في بعض الأحاديث أن الصحابة قالوا: يا رسول الله، ألا تدعوا الله لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ ألا ترى ما نحن فيه؟! فقال: قد كان من كان قبلكم يوضع المنشار على رأسه حتى يقطع نصفين وما .. ؛ يعني أن من كان قبلكم قد أوذوا. فالصحابة رضي الله عنهم فتنوا بمثل هذه الفتن الداخلة في قوله: وفتنة المحيا الممات فتنوا وأوذوا وعذبوا، فكان بعضهم يلقى في الشمس، ويوضع على صدره الصخور الثقيلة من الحجارة، ويقال: لا نتركها أو لا نطلقك حتى تكفر بمحمد ؛ ولكن لما كان الإيمان راسخا في قلوبهم متمكنا، لم يردهم ذلك عن دينهم.
وقد أخبر الله تعالى بالحكمة في ذلك في قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ ؛ فهذه أيضا من فتن الحياة الدنيا. من فتن الدنيا أنه إذا دخل الإسلام فأصابه خير اطمأن به؛ إذا أصاب صحة ومالا وكثر أولاده وكثر ماله، ورزق صحة ونعمة وأمنا وطمأنينة -مدح الإسلام واطمأن إليه وثبت عليه. أما إذا أصابته فتنة؛ فإنه يرجع ينقلب على عقبيه. إذا أصيب بفتنة؛ يعني بأمراض مثلا، أو بموت قريب، أو بخسران في تجارة، أو بخسران في مال، أو ما أشبه ذلك؛ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ وأخذ يسب الدين، ويسب المتدينين، ويدعي أنه ما جاء بخير، ويقول: منذ أن التزمت ومنذ أن تدينت وأنا في ضرر، وأنا في مرض، وأنا في خسران مبين.
فكل ذلك من الفتن، الإنسان يسأل ربه السلامة من فتنة المحيا والممات. وكذلك إذا أصيب بهذه المصائب ونحوها؛ علم أنها من الله تعالى يختبر ثباته على دينه؛ فإذا ثبت فإنه دليل على تمسكه واعتقاده، وإذا رجع وانقلب على عقبيه؛ كان ذلك دليلا على ضعف يقينه وضعف إيمانه؛ كما قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ إذا أصيب بأذى في ذات الله تعالى سوَّى عذاب الناس بعذاب الله، خاف من الناس كما يخاف من الله، وترك ما يأمرونه به، وفعل ما ينهون عنه من العبادات وما أشبهها. قدم طاعة الناس على طاعة الله، قدم خوف الناس على خوف الله، فهذا معنى قوله: جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ .
فكل هذا داخل في فتنة المحيا والممات التي أنت تستعيذ بالله في آخر صلاتك تقول: أعوذ بالله من عذاب جهنم، وعذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال .

line-bottom